BACK       عودة


أيام الغضب و..الإنتظار

في قصيدته الخالدة (الجسر) كان الشاعر الشهيد خليل حاوي ينشد: إن لي عيداً وعيدْ كلما ضوا في القرية مصباحٌ جديد ولقد كان عيدي هذه المرة محمولاً على الفرحة والفرجة وليس في ذلك لعب بالألفاظ كما نرى،أما الفرحة فترفل بالأمل وزهرة الحرية المعقودة على جبين الخليل، وأما الفرجة فهي العلاقة بين جمهورنا وصندوق العجب الفلسطيني الوليد ، هذا التلفزيون الذي يعرض بعد الإفطار مسلسل ( أيام الغضب ) واحسب أن الجمهور قد تعلق بهذا العمل منذ الحلقة الأولى.

وحتى تتوحد الفرجة بالفرحة ، قد يفيد أن نعرف مخرج هذا العمل العربي السوري الناجح ، فمع أننا أمة واحدة نؤمن بذلك ونستمد يقيننا بالبقاء من هذه الحقيقة ، إلا أننا الغصن المكسور الموجوع في الشجرة ، وقد درج التلاميذ العرب على أن يصفو ا فلسطين بالجريحة "حتى لا يستخدم التعبير المؤلم :المغتصبة " ولهذا فإننا نلتمس لأنفسنا عذراً حتى نبالغ بالعيد كلما أضاء مصباح جديد في أيام حياتنا، ومصباح اليوم، مخرج مسلسل ( أيام الغضب ) هو باسل الخطيب ابن شاعر فلسطين الكبير يوسف الخطيب وابن السيدة بهاء الريس ، شقيقة الشاعر ، نائب رئيس المجلس التشريعي منير الريس . باسل هو الشق التوأم البكر للأسرة الفلسطينية الموهوبة، وإذا كان شقه الآخر، بادي، الذي سبقه إلى الحياة بدقائق معدودة، قد اهتم بالتكنولوجيا، وشقيقتهما أسيل قد أصبحت طبيبة لامعة في دمشق، فقد انفرد باسل بصفة الفرخ العوام، أو حسب التعبير التقليدي، كان شبلاً جديراً بأن يكون ابناً لذلك الأسد .

ويحق ليوسف الخطيب، مجنون فلسطين، وشاعرها، والمولع بالموسيقى الكلاسيكية، والفن التشكيلي، ومؤسس إذاعة صوت فلسطين في دمشق منذ مايزيد على ثلاثين عاما، أن يفرح بنجاح البيئة المنزلية " التي أنشأها بالتعاون مع رفيقة عمره " في تفجير موهبة باسل، الذي ورث من أبيه بذرة الفن ...والأعصاب المشتعلة . درس باسل الخطيب السينما في البلاد التي كان اسمها الإتحاد السوفيتي، ولان الديك الفصيح من البيضة يصيح، فقد لفت أنظار أساتذته، بقوة، إلى فيلمه السينمائي القصير ( اللعنة ) ، الذي كان مشروع التخرج، وقد اختار هذا الفتى العنيد، أن يركب أصعب المراكب، فهو لم يلجأ إلى مدرسة الواقعية الاشتراكية، بشروطها التقليدية التي يشجع عليها بلد التخرج، بل اهتم بمدرسة اندريه تاركو فسكي، أحد أخطر المخرجين السينمائيين المعاصرين، وقد كانت السياسة الثقافية السوفيتية التقليدية تنظر بحذر إلى قنبلة الإبداع تاركوفسكي، ولكن لايصح إلا الصحيح ، فقد كان يرفض زج السينما في جهاز الخدمة الإعلامية المتعة المجانية ، لان الفن السينمائي في نظره " يتمتع بنفوذ هائل ونستطيع من خلاله أن نطرح أكثر مشكلات العصر إلحاحا وتعقيدً " ،ولأنه يندب السينما لمهمة كبيرة بهذا الحجم فقد اهتم تاركوفسكي بالرصد السينمائي، والمؤثرات المختلفة من بصرية وصوتية، مع استبطان للشخصيات في ضوء الحدث والجو العام، وكان أول ما قام به باسل الخطيب بعد تخرجه هو نشر كتاب عن تاركوفسكي ( السينما والحياة ) مع مقدمة مكثفة تشرح اختياره لهذا المخرج الكبير " الذي يسمح للمطر أن يهطل من السقف في غرفة مغلقة " ..

حين عاد باسل الخطيب إلى دمشق فوجئ بكل مايُحبط شاباً مثقفاً مسلحاً بشهادة أكاديمية وموهبة حارقة، فالسينما صناعة ثقيلة، لهذا كان يبحث ويشاهد ويسأل، وخلال فترة البطالة الإجبارية ، كتب روايته ( أحلام الغرس المقدس ) التي فازت بجائزة سعاد الصباح، وقد أرسلها عبر البريد، بلا وساطه ، ولا معرفة بأي من أعضاء لجنة التحكيم .

قلت إن باسلاً ورث عن يوسف الخطيب أعصابه المشتعلة، ولا أزال اذكر لقائي العاصف به في القاهرة، كان شاباً ناري الطبع، محكوماً ببذرة " جنون فلسطين " فلماذا لا يكون لفلسطين سينما؟ وكنت حائلاً وعاجزاً أمام توق هذا الشاب الذي اخذ من دورا الخليل وغزة ، عناد أبيه وأمه ، وإصراره على العمل .. ولا أستطيع أن أقول إنني نسيته ، لكن الزمن يحفر مجراه فينا ، ويوزعنا على أقدارنا ، إلى أن بدأت أسمع بأعماله الدرامية التلفزيونية ، وها أنذا ، مع جمهور المتفرجين أرى ( أيام الغضب) . كنت أقول دائماً: إن الغضب أحد أسماء يوسف الخطيب الشعرية ، وها هو ابنه يقود الغضب في اتجاه فني ، غير الشعر، لكنه يصب في النهر ذاته .. لماذا نجح هذا المسلسل ؟ القصة المتقنة، والسيناريو ذو المشاهد المدروسة، لا ترهل ولا ثرثرة ، والحوار الذكي روض اللهجة السورية مع اللغة الفرنسية " بلسان المستعمر" تاركاً للترجمة دور التوصيل، والى ذلك فقد نجح باسل في توظيف المؤثرات، وصنع الكادر، وتنويع اللقطات من طويلة وقصيرة ومباشرة، والأهم من ذلك ، أنه تمكن من إدارة الممثلين ، على مختلف أجيالهم ، بما يشكل نوعاً من الهارموني البصري المتكامل ..
متى يصنع باسل الخطيب فيلمه السينمائي الذي يحلم به ؟

أحمد دحبور 1- 2 - 1997